سيناريو العار...مايحكمشى
بقلم:فهمـي هـويـــدي
لا أريد أن أصدق أخبار إسرائيلية عن تعاون أمني مع دول عربية لمرحلة مابعد تولي حماس للسلطة.
قد لايفاجئنا التواطؤ الدولي علي حصار الشعب الفلسطيني بهدف تجويعه وإذلاله, وصولا إلي إفشال حكومة حماس وإجبارها إما علي الاستسلام أو الاستقالة. لكن حين تشترك دول عربية في ذلك الحصار, فذلك هو العار بعينه.(1) لم تخل من فجاجة تلك التصريحات التي مهدت لزيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس إلي القاهرة في الأسبوع الماضي, وذكرت أن من بين الموضوعات المدرجة علي جدول مباحثاتها تشجيع الديمقراطية في مصر, ومعاقبة الفلسطينيين لأنهم مارسوا الديمقراطية في بلدهم! ـ بطبيعة الحال, فإن الشق الأخير من الجملة لم يذكر بهذا الوضوح, ولكنه غلف بعبارات دبلوماسية أخفت القبح في المهمة, من قبيل مناقشة أوضاع مابعد نتائج الانتخابات الفلسطينية. وكانت تلك المناقشة التي جرت بعد الانتخابات قد أسفرت في الولايات المتحدة عن قرار بوقف المعونات المالية عن السلطة الفلسطينية, واسترجاع معونة(نحو50 مليون دولار) كانت مخصصة للبنية التحتية في الضفة الغربية. وتم ذلك بجرأة بدا فيها التناقض صارخا, في اعلان ضمني صريح عن أن الأمر حين يتعلق بالمصالح الإسرائيلية, فكل منطق يمكن إهداره, وكل سياسة يمكن أن تنقلب إلي نقيضها!
خلال رحلتها التي شملت بعد ذلك أكثر من عاصمة عربية, شددت السيدة رايس علي أهمية محاصرة حماس والضغط عليها, إلي أن تمتثل للطلبات الإسرائيلية الثلاثة(الاعتراف بالدولة, وإلقاء السلاح, وتأييد الاتفاقات المعقودة مع السلطة الفلسطينية). وهي لم تكن وحيدة في ذلك بطبيعة الحال, لأن السفارات الأمريكية لم تقصر في أداء الواجب في مختلف أنحاء العالم.
هذه المهمة بادرت إليها الدبلوماسية الإسرائيلية منذ ظهرت النتائج الأولي للانتخابات. ذلك أن تل أبيب أطلقت حملة تعبئة مضادة لمحاصرة الفلسطينيين وتجويعهم, فانطلق وزراؤها وبرلمانيوها ودبلوماسيوها في كل اتجاه داعين إلي مقاطعة الحكومة الفلسطينية الجديدة, ما لم تستجب للطلبات الثلاثة. وتابعنا في صحف الأسبوعين الأخيرين كيف نشطت تلك التحركات في بعض عواصم العالم العربي, مشرقه ومغربه. وأدهشتنا تصريحات المبعوثين الإسرائيليين التي أعربت عن نجاحات حققوها في هذا الصدد.
لم يقف الأمر عند حد الإلحاح علي محاصرة الفلسطينيين, وإنما تجاوزه إلي تخويف دول العالم من الآثار الكونية الخطيرة التي يمكن أن تترتب علي فوز حماس, التي قد تؤدي في زعمهم إلي نشوب أول حرب عالمية من نوعها في القرن الحادي والعشرين, وكانت تلك هي الرسالة التي عبر عنها مندوب اسرائيل الدائم لدي الأمم المتحدة, داني جيليرمن, في خطاب ألقاه أمام جلسة لمجلس الأمن في(2/22) خصصت لبحث موضوع الإرهاب.(2) حملة التعبئة المضادة, الإسرائيلية والأمريكية, استهدفت أمرا آخر هو: محاصرة حماس في الخارج, وقطع الطريق أمام محاولاتها مخاطبة عواصم العالم, وبالتالي اغلاق الأبواب أمام مساعي الاعتراف بحكومتها. مشهودة الانتقادات التي انهالت علي موسكو لأنها وجهت دعوة إلي وفد من الحركة لزيارتها. ولم تهدأ تلك الجهود إلا بعد الاعلان عن أن القيادة الروسية ستطلب من وفد حماس الاستجابة للشروط الإسرائيلية.
كما انه ليس معروفا بعد الضغوط, ما إذا كان الرئيس بوتين سوف يلتقي الوفد أم لا. ويبدو أن ضغوطا مماثلة مورست علي تركيا التي كانت قد دعت ممثلي الحركة لزيارة أنقرة, لمنع اجتماع رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان مع خالد مشعل والوفد المرافق له. ونجحت تلك الجهود في تحقيق مرادها, حيث اقتصرت لقاءات الوفد علي الاجتماع مع وزير الخارجية عبدالله جول, ومع ذلك لم تسلم الحكومة التركية من الانتقادات, التي ركزت علي انه ما كان لأنقرة أن توجه الدعوة أصلا إلي حماس. حتي إن بعض المحافظين الجدد في واشنطن تساءلوا عما إذا كانت تركيا تقبل باستقبال وفد من حزب العمال الكردستاني الانفصالي في البيت الأبيض. وتردد السؤال ذاته في اسرائيل(لاحظ التوافق!) ـ حيث وجهه مدير مكتب رئيس وزرائها إلي الأتراك علي النحو التالي: ماذا يكون شعوركم لو أننا استقبلنا عبدالله اوجلان. وقد وصف أحد المعلقين الأتراك السؤال بأنه وقح, فلا تركيا هي اسرائيل ولا الفلسطينيون كالأكراد.(إبراهيم كاراجول ـ صحيفة بين شفق في2/17).
في2/21 نشرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية تحليلا لمحررها العسكري زئيف شيف, ذكر فيه أن تل أبيب مرتاحة للموقف العربي من حماس. وادعي أن وفدا للحركة كان في زيارة لإحدي العواصم العربية أخيرا لإجراء بعض الاتصالات, وأن الوفد طلب الاجتماع مع رئيس الدولة, ولكن الطلب قوبل بالاعتذار. وكانت الصحف العربية اللندنية قد نشرت قبل عشرة أيام أن اتصالات جرت لترتيب زيارة يقوم بها وفد من حماس لدولة عربية أخري, بعد عودة رئيسها من الولايات المتحدة ـ وكان مقررا أن يكون علي رأس الوفد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة. غير أن الوضع تغير بعد العودة, حيث اعتذرت الدولة المذكورة عن استقبال مشعل, الأمر الذي ترتب عليه الغاء الزيارة.
لم تحقق مساعي الحصار هدفها بالكامل, حيث التقي قادة حماس رؤساء ثلاث دول عربية حتي الآن, هي سوريا وقطر والسودان, وكانت لهم زيارة ناجحة إلي طهران. مع ذلك أخشي أن تصبح تلك الزيارات استثناءات علي الطوق الذي تتحرك اسرائيل والولايات المتحدة بهمة مشهودة لفرضه من حول الحركة, مستهدفا اغلاق جميع الأبواب في وجهها.(3) ينتابني شعور بالخزي والحزن حين اقرأ الأخبار التي تتحدث عن تعاون بعض الأطراف الفلسطينية مع الإسرائيليين لإضعاف حكومة حماس وافشالها. ولا أريد أن أصدق الأخبار التي يروج لها الإسرائيليون عن تعاون أمني مع بعض الدول العربية لمواجهة مرحلة مابعد تولي حماس للسلطة. ولا أتردد في وصف هذه التقارير والأنباء ـ إذا صحت ـ بأنها من مشاهد سيناريو العار.
يوم2/19 نشرت صحيفة الصنداي تايمز اللندنية أن مسئولين رفيعي المستوي من الفلسطينيين والإسرائيليين عقدوا اجتماعات سرية يومي8 و9فبراير في معهد جيمس بيكر للسياسات العامة بمدينة هيوستن, تطرق البحث فيها إلي سبل اضعاف حركة المقاومة الاسلامية(حماس) وتهميش دورها, بعد فوزها في الانتخابات التشريعية. وقال تقرير الصحيفة إن أربعة أشخاص مثلوا كل بلد في تلك الاجتماعات, فكان جبريل الرجوب مستشار الأمن القومي للرئيس أبومازن رئيسا للوفد الفلسطيني. ورأس الجانب الإسرائيلي الجنرال اوري ساغوي الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية, وأدار الحوار السفير الأمريكي الأسبق في كل من دمشق وتل أبيب ادوار جريجيان.
ذكر تقرير الصنداي تايمز أن الاجتماع كان معدا له قبل الانتخابات الفلسطينية, ولكن فوز حماس طرح عنوانا جديدا علي جدول أعماله.ومن النتائج المهمة التي أسفرت عنها المناقشات أنها فتحت قناة اتصال جديدة بين أبومازن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بالوكالة ايهود اولمرت والإدارة الأمريكية, يمكن الافادة منها خلال المرحلة المقبلة.
علي صعيد آخر, نشرت صحيفة الشرق الأوسط تقريرا لمراسلها في تل أبيب(في2/23) ذكر أن ناطقا عسكريا اسرائيليا كشف النقاب عن أن جيش بلاده مازال يقوم بأعمال التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية, وأن ماتردد عن قطع ذلك الاتصال بين الطرفين ليس صحيحا. وأضاف الناطق أن لإسرائيل مصالح تقتضي اجراء الاتصال مع الفلسطينيين وإلا تعرضت تلك المصالح للضرر. وحاول الناطق أن يخفف من صورة الاتصالات فقال إن اسرائيل تخطر الجهات الأمنية الفلسطينية بالاجتياحات التي تعتزم القيام بها, ليتم ابعاد القوات الفلسطينية من طريقها, لتجنيبهم احتمال الاشتباك معهم(!).
وكان شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي قد صرح في2/14, عقب زيارته لإحدي العواصم العربية بأن مباحثاته مع مسئوليها تناولت أمورا كثيرة, كان تطوير التنسيق الأمني وتبادل المعلومات من بينها. الامر الذي يدفعني إلي طرح السؤال التالي: في الظروف الراهنة ماهو الموضوع الذي يتطلب اجراء تنسيق أمني بين اسرائيل وأي دولة عربية مجاورة لها؟(4) في مواجهة الضغوط المكثفة التي تستهدف تجويع الفلسطينيين وحصار حكومتهم الجديدة سياسيا ودبلوماسيا, يستدعي المشهد عديدا من الأسئلة المطروحة علي العالم العربي بوجه أخص, منها علي سبيل المثال: أين الدبلوماسية العربية من حملات التعبئة المضادة التي يقوم بها الإسرائيليون والأمريكيون في مختلف القارات والمحافل؟ ـ وما موقف الحكومات من قرار محاصرة الفلسطينيين وتخيير حكومتهم بين الاستسلام أو الاستقالة؟ ـ وأين صوت القوي السياسية ومنظمات حقوق الانسان؟ ـ ولماذا لايبادر الدعاة إلي تعبئة الناس وحثهم علي مساندة الشعب الفلسطيني في الصمود أمام الحصار؟ ـ وهل حسبت جيدا النتائج التي يمكن أن تترتب في الشارع العربي
في حال اتخاذ موقف الحياد بين الفلسطينيين والإسرائيليين, أو إذا اصطف أي طرف عربي في الجانب الإسرائيلي, متبنيا مطالبه الثلاثة؟
لا تكفي في الاجابة عن الأسئلة تلك التصريحات الرسمية التي أطلقت في بعض العواصم العربية داعية إلي عدم معاقبة الشعب الفلسطيني. كما أن الكلام عن اعطاء حكومة حماس فرصة, الذي قد يعني الصبر عليها لحين اثبات النجاح أو الفشل, استقبلته اسرائيل بإيحائه السلبي الذي يتلخص في أن كلام حماس الآن ينبغي ألا يؤخذ علي محمل الجد, لأنهم سيفشلون في النهاية.
ولايستطيع المرء أن يكتم دهشته إزاء ذلك الصمت العربي الرسمي, الذي لم يوجه كلمة إلي اسرائيل الضاغطة علي الجميع بقوة, تطالبها بأي استحقاق فلسطيني, كأنه لايوجد احتلال ولا مستوطنات ولا اجتياحات أو اغتيالات, وكأن الطرف الفلسطيني وحده المطالب بطمأنة اسرائيل والاستجابة لأطماعها التي لاتقف عند حد.
في هذه الأجواء المحبطة, لا أخفي أنني فوجئت بالخطاب الذي ألقاه السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية في بروكسل(يوم2/22), أمام لجنة العلاقات العربية بالبرلمان الأوروبي, ووجه فيه إلي مستمعيه السؤال التالي: لماذا تصمتون علي استمرار اسرائيل في بناء الجدار(الذي قضت محكمة العدل الدولية ببطلانه) وعلي توسيع المستوطنات, دون أن توجهوا إليها تساؤلا أو تضعوا شروطا؟ ـ وصارح موسي أعضاء البرلمان الأوروبي بأن هذا الموقف يجسد ازدواج المعايير الذي يسبب النقمة في الشارع العربي.
بدا أمين الجامعة العربية في ذلك الخطاب وكأنه طائر يغرد خارج السرب, حتي إنني قلت بعدما فرغت من قراءته: أخيرا وجدنا مسئولا عربيا تذكر القضية وتحدث عن استحقاق فلسطيني وانتقد الموقف الغربي.
نقلت هذا الانطباع إلي السيد عمرو موسي بعد عودته إلي القاهرة, وكان تعليقه انه لمس تجاوبا طيبا مع كلامه من جانب العديد من النواب الأوروبيين, وأن المجال لايزال مفتوحا في الغرب لوضع القضية في اطارها الصحيح, بحيث لا تظل الطلبات الإسرائيلية وحدها المطروحة علي الطاولة. وأضاف أنه قام بما يقتضيه فرض الكفاية في الموضوع, وان كان الظرف يحوله إلي فرض عين علي الجميع, الأمر الذي يعيد طرح السؤال: أين الدبلوماسية العربية في المشهد, ولماذا تلتزم الصمت إزاء المطالب الفلسطينية؟
لقد تحدث كثيرون عن مأزق حماس, ومأزق فتح, لكن الضوء لم يسلط بشكل كاف علي المأزق الذي تتعرض له الأنظمة العربية, التي بات عليها أن تحسم موقفها بوضوح لا يحتمل اللبس ويجنبها الوقوع في براثن سيناريو العار ـ لذا لزم التنويه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق