Get my banner code or make your own flash banner

انت منين؟

Sign by Danasoft - Myspace Layouts and Signs

٢٠٠٦/١٢/٢٢

الأمن اللى مش نافع..مايحكمشى


هذا المقال للكاتب الكبير فهمي هويدي تم منعه أمس من النشر في جريدة الأهرام و اليوم ننشره كاملاً






بماذا تفسر أن تظل عصابة اغتصاب الأطفال وقتلهم ترتكب جرائمها البشعة في أنحاء مصر طوال سبع سنوات دون أن يشعر بها أحد، في حين أن بعض طلاب جامعة الأزهر لما قاموا باستعراض احتجاجي لمدة نصف ساعة أمام مكتب المدير، فإن استنفاراً إعلاميا فورياً حدث، روع الخلق في بر مصر، أعقبته ضربة أمنية قوية، أسفرت عن القبض علي ١٨٠شخصاً.
( ١ )
من تابع الإعلام البريطاني خلال الأسبوعين الماضيين لابد أنه لاحظ أن الصحف ومحطات التليفزيون والإذاعة الخاصة والعامة شغلت بقضية سفاح مجهول قتل خمس مومسات في منطقة واحدة. وهو الحدث الذي هز بريطانيا واستنفر أجهزة الشرطة وخبراء البحث الجنائي وأساتذة علم النفس والاجتماع، وفي حين تم تجنيد ألفي ضابط وشرطي لملاحقة الفاعل، فإن فريقاً من الخبراء والعلماء عكفوا علي دراسة شخصيته من خلال الجرائم التي ارتكبها ونوعية النماذج التي اختارها والأهداف التي تحراها. ومن هؤلاء عالم النفس دايفيد كارتر الذي قال إن الرجل شديد الذكاء وبالغ الحذر، ورجح أن يكون مقتنعاً بأنه صاحب رسالة «تطهيرية»، وأن تكون دوافعه إلي ارتكاب جرائمه أخلاقية.
إذا قارنت هذا الاستنفار الأمني والمجتمعي الذي شهدته بريطانياً بالاسترخاء المفرط الذي تم التعامل به في مصر مع عصابة اغتصاب الأطفال وقتلهم، فسوف يجسد لك ذلك الفرق بين الجد والهزل، ذلك أنه يحق لنا أن نقول إن قتل ٣٠ طفلاً وطفله في ست محافظات مصرية، علي أيدي عصابة واحدة خلال سبع سنوات متتالية، إذا لم يكن خبره قد وصل إلي علم أجهزة الأمن، فتلك مصيبة، لأنه يعني أن تلك الأجهزة لا تري ولا تسمع بما يجري علي أرض الواقع، رغم أن خطابها يؤكد كل حين أنها ترصد دبيب النمل في البلد ولا تفوتها شاردة ولا واردة. أما إذا كانت قد علمت وغضت الطرف وسكتت فالمصيبة أعظم، لأنها في هذه الحالة تكون قد أهملت إهمالاً جسيماً أقرب إلي التستر علي الجرائم، والاحتمال الأول عندي أرجح - لماذا؟
الإجابة المختصرة لأن أمر العصابة حين تم اكتشافه بالصدفة البحتة، فإن أجهزة الأمن لم تقصر في متابعة القضية وكشف أبعادها، فقد علمنا من التقارير الصحفية أن أحد أفراد العصابة ألقي القبض عليه في مدينة طنطا بتهمة «التسول»، وحين تم اقتياده إلي الضابط المختص، فإنه طلب منه أن يحميه من زعيم العصابة الذي كان يترصده لقتله، وحين سأله الضابط عن سبب سعيه للبطش به، فإن صاحبنا أبلغه بأن «الزعيم» اكتشف خيانته له حين أقام علاقة مع رفيقته، أثناء حبسه في قضية هتك عرض، وحين أطلق سراحه فإنه بدأ يلاحقه للانتقام منه، ولذلك فإنه يبحث عن مأوي للاحتماء به. وإذ سأله الضابط عن علاقته بالزعيم وعن نشاط العصابة، فإن الفتي أفاض في المسألة واعترف ببعض الجرائم التي ارتكبت، وأرشد عن الأماكن التي ألقيت أو دفنت فيها جثث الضحايا، وكانت تلك هي الخيوط التي قادت إلي كشف المأساة وإلي اعتقال عناصرها، واحداً يلو الآخر.
( ٢ )
هذا التراخي الملحوظ في الكشف عن جرائم العصابة، كان له نقيضه في حالة طلاب جامعة الأزهر، لأن الأعين التي نامت طوال السنوات السبع في الحالة الأولي، كانت مفتوحة عن آخرها وهي تتابع ما يجري داخل حرم الجامعة، خصوصاً الاعتصام الذي قام به بعض أولئك الطلاب أمام مكتب مدير الجامعة، وهو الاعتصام الذي دعوا إليه تعبيراً عن الاحتجاج ومحاولة من جانبهم للفت أنظار الرأي العام لما تعرضوا له من مظالم، بدأت بمنعهم من الترشيح لانتخابات اتحاد الطلبة وانتهت بفصل ثمانية منهم، غير أن الأمور سارت في اتجاه مغاير، أو قل إنها قرئت علي نحو آخر، بعدما نشرت بعض الصحف صوراً لبعضهم، بثتها إحدي المحطات التليفزيونية، وهم يمارسون لعبة «الكاراتيه» في حين ارتدوا ثياباً سوداء وغطوا وجوههم بأقنعة مماثلة، ووصفوا في خطاب الإثارة الإعلامي بأنهم «ميليشيا» وهو ما كان له أثره في تخويف الناس وترويعهم.
قراءة الأجهزة الأمنية للحدث عبر عنها بيان الداخلية الذي صدر يوم الخميس ١٤/١٢، واعتبر مسلك الطلاب «منعطفاً خطيراً» استهدف فرض أوضاع غير شرعية داخل الجامعة، عن طريق الحث علي التظاهر والتحريض علي الخروج للطريق العام، في محاولة للإخلال الجسيم بالنظام العام وانتهاك القانون .. إلخ.
الطلاب عبروا عن رأيهم في بيان كانوا قد أصدروه، بعدما فوجئوا بحملة التعبئة الإعلامية وبالصدي السلبي لموقفهم، إذ قالوا إنهم أرادوا لفت الأنظار إلي قضيتهم، بعد مسلسل المظالم التي تعرضوا لها من قبل الأجهزة الأمنية وإدارة الجامعة «وأن ما دفعنا إلي أجراء العرض التمثيلي ناتج عن شعورنا بأن أحداً لا يسمع صوتنا، ولا يتحرك من أجل المطالبة بحريتنا داخل الجامعة.. ولكننا أخطأنا في تقدير حركتنا، ولهذا وجب علينا الاعتذار»، ثم أضافوا أنهم يتقدمون بالاعتذار «أولاً لجامعتنا وأساتذتنا وزملائنا عن العمل الذي قمنا به، مما أساء إلي شكل الجامعة، وأيضاً مما يشكل إساءة لأنفسنا، بعدما وصفنا بأننا «ميليشيا عسكرية» علي غير الحقيقة، في حين أننا طلاب فقط».
حين سألت من أعرف من أساتذة الجامعة عن حقيقة ما جري، قالوا إن الطلاب المعتصمين لجأوا إلي شغل الوقت من خلال تقديم بعض العروض، فكان منها ما هو خطابي وما هو تمثيلي أو رياضي، والصور التي نشرت هي للفقرة الرياضية التي تمت في الفناء، في حين تحلق الطلاب حولها يتفرجون.
رغم أن ما سمعته صور ما جري بحسبانه فقرة عادية لم يكن لها علاقة بأي شكل من أشكال العنف أو أدواته، إلا أن أحداً لا ينكر أن الفقرة لم تكن عادية وأن الاستعراض أياً كانت تسميته جاء ساذجاً وغبياً، فتح الباب واسعاً للقلق والمخاوف، خصوصاً أن الطلاب ظهروا فيه بأردية وأقنعة سوداء، مقلدين في ذلك شباب الانتفاضة في الأراضي المحتلة.
لقد تحول المشهد إلي قضية يفترض أن يحسم القضاء أمرها، بما يحدد صواب أي من الرؤيتين أو خطئها، لكن المراقب لا يسعه في هذا الصدد إلا أن يسجل أن حملة التصعيد والإثارة التي واكبت المشهد، وبدا فيها الخطاب الإعلامي منحازاً إلي التحريض والإثارة، ومتبنياً، للقراءة الأمنية دون غيرها، الأمر الذي تحول بمقتضاه بعض الإعلاميين إلي مدّعين وجلادين - وأحياناً مخبرين - وليسوا باحثين عن الحقيقة أو محللين.
( ٣ )
هل هناك علاقة بين قضية عصابة "التوربيني" - هكذا سمي زعيمها - وبين قضية طلاب جامعة الأزهر؟ ردي علي السؤال أن ثمة علاقة غير مباشرة، من أكثر من زاوية، فمن ناحية نجد في عصابة قتل الأطفال بعد اغتصابهم بعضاً من سمات «مصر الأخري»، التي لا تذكر في وسائل الإعلام إلا في صفحات الحوادث، ولا يشار إليها إلا مرتبطة بالكوارث والجرائم، وهي العالم الآخر الذي يقبع في المساحة المظلمة من صورة المجتمع، التي تخفي واقعاً عشوائياً تغيب عنه السلطة، وتكاد تحكمه شريعة الغاب.
ولأن أهله هم ضحايا الفقر والبطالة وإهمال الدولة واستعلاء النخبة، فلا غرابة أن يصبح موطنا للجريمة والرذيلة ومختلف تجليات التحلل الاجتماعي، ولك أن تذهب إلي أبعد وتقول إن ما أقدمت عليه العصابة إذا كان قد صدم المجتمع المصري وأثار اشمئزاز وقرف كل شرائحه، إلا أنه ليس غريباً ولا مفاجئاً تماماً، ذلك أن تقارير منظمات حقوق الإنسان، التي تسجل الانتهاكات التي يتعرض لها البشر، إذا أوقعتهم حظوظهم البائسة في أيدي من لا يرحم في المخافر والسجون والمعتقلات، لا تخلو من إفادات من هذا القبيل تترواح بين هتك العرض والقتل البطيء (هل تذكر شريط الصور الذي سجل هتك عرض أحد المواطنين في مخفر الشرطة بحي إمبابة؟) الأمر الذي يعني عند التحليل الأخير أن الاختلاف بين هذه الممارسات وتلك، هو في الدرجة فقط وليس في النوع.
وإذا كانت العصابة رمزاً لحالة اجتماعية بائسة طفحت علي جسم مصر الأخري، فإن ما أقدم عليه أولئك النفر من طلاب جامعة الأزهر يرمز إلي حالة من الاحتقان السياسي الذي ينبغي أن تفهم أبعاده ويدرك سياقه. صحيح أن هذا السلوك شاذ وغريب علي الجامعات المصرية، ناهيك عن الأزهرية، ولم يختلف أحد علي النفور منه واستنكاره، لكن من الصحيح أيضاً أن الباحثين المنصفين لا يختلفون حول الظروف التي استدعته وأفرزته، حيث لا مفر من الإقرار بأن هذا السلوك الشاذ هو نتاج ظروف شاذة مماثلة، وإن شئت فقل إن الإسراف في التعبير عن الاحتجاج والغضب، هو رد فعل مباشر للإسراف في قمع الطلاب والتدخل الأمني في شؤون الجامعات، وهو ما دفع كاتباً محترماً ورصيناً مثل الدكتور عمرو الشوبكي إلي القول بأنه «إذا حوسب المسؤول عن إدخال البلطجية إلي جامعة عين شمس (لقمع الطلاب الذين حرموا من الترشيح فلجأ إلي إقامة اتحاد حر مواز)، فلابد أن نحاسب الميليشيات الطلابية السوداء علي ما فعلته في جامعة الأزهر، برعونة لا تعي خطورتها» (مصر اليوم ١٤-١٢).
( ٤ )
في «أحلام فترة النقاهة» - الحلم رقم ٢٠٣ - التي تطبعها الآن «دار الشروق» مكتملة، كتب الأستاذ نجيب محفوظ يقول: رأيتني أقرأ كتاباً وإذا بسكاري رأس السنة يرمون قواريرهم الفارغة، فتطايرت شظايا، وينذرونني بالويل، فجريت إلي أقرب قسم شرطة، ولكني وجدت الشرطة منهمكة في حفظ الأمن العام، فجريت إلي فتوة الحي القديم، وقبل أن أنتهي من شكواي هب هو ورجاله وانقضوا علي الخمارة التي يشرب فيها المجرمون، وانهالوا عليهم بالعصي حتي استغاثوا بي!
المعني الذي أراد نجيب محفوظ توصيله أن «الأمن العام» في مفهوم رجال الشرطة ليس هو أمن الناس أو المجتمع، ولكنه أمن النظام، وعلي الناس أن يدركوا هذه «الحقيقة» وأن يتصرفوا علي هذا الأساس. وملاحظته هذه تفسر لنا المفارقة التي نحن بصددها، حيث لم تنتبه الشرطة إلي عمليات القتل التي مارستها عصابة التوربيني طوال السنوات السبع التي خلت، لأنها كانت منشغلة «بالأمن العام» المتمثل في متابعة النشطاء السياسيين، الأمر الذي يجسد الاهتمام بالأمن السياسي دون الأمن الاجتماعي، وهو موقف يعبر بصدق عن الخلل الشديد في علاقة السلطة بالمجتمع في مصر، والذي ترجح فيه كفة السلطة باستمرار، الأمر الذي رتب نتيجة مهمة خلاصتها أن تأمين النظام بات أهم واجبات الشرطة، وكل ما عدا ذلك تتراجع أهميته أو تنعدم.
هذا التفسير رددته بعض التحليلات التي نشرتها صحف المعارضة، حتي أصبح أمراً متعارفاً عليه ومسلماً به، ناهيك عن أن شواهد الواقع تؤيده. والانطباع السائد في المجتمع المصري الآن أن أغلب مخافر الشرطة أصبحت تستقبل بفتور وعدم اكتراث أي بلاغ تتلقاه حول قضية جنائية أو مدنية، لكنها تستنفر وتعلن الطوارئ وتهرول، إذا كانت القضية سياسية أو كان البلاغ يشكك في وجود رائحة للإرهاب في أي مكان.
ليس ذلك فحسب، وإنما بات مستقراً في أوساط الشرطة أن كفاءة الضابط أو القيادي، ومن ثم ارتقاءه واستمراره، ذلك كله يقاس بمدي الإنجاز الذي يحققه في ملاحقة وإجهاض العمليات الإرهابية، فضلاً عن كفاءته في «التعامل مع الإرهابيين بالأسلوب المناسب»، وهو ما يدفع رجال الأمن إلي التفاني في اتجاه والتراخي في الاتجاه الآخر، وفي ظل ذلك الوضع فلا يستغرب ألا ترصد ممارسات عصابة «التوربيني»، بينما تسلط الأضواء القوية علي ممارسات طلاب الجامعة، إذ بحكم ذلك المنطق، فإنه من حسن حظ الرجل وعصابته أنهم ليسوا في عداد «الإرهابيين»، حيث لم يفعلوا أكثر من أنهم اغتصبوا وقتلوا ٣٠ طفلاً فقط!
أعرف صديقاً من أنصار نظرية المؤامرة، أدهشته المفارقة في موقف أجهزة الأمن في القضيتين، فحاول إقناعي بأن المبالغة في تضخيم ما جري في جامعة الأزهر ليست سوي فرقعة أريد بها ضرب عصفورين بحجر واحد، إذ من شأن الفرقعة أن تصرف الانتباه عن الفشل الأمني في ضبط عصابة التوربيني في الوقت المناسب، كما أنها تشكل غطاء مناسباً لتوجيه ضربة إجهاضية واستباقية تؤدب المشاغبين وتردعهم بعد تزايد الصداع الذي يسببونه للنظام في الآونة الأخيرة.
إلي هذا المدي ذهب البعض في التأويل والاستنتاج

ليست هناك تعليقات: